آية النهوض الإنساني في القرآن الكريم.



آية النهوض الإنساني في القرآن الكريم.
بقلم- خالد المرسي
بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول الله تعالى آمرًا نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} يقول الإمام البغوي في تفسيره: "{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } آمركم وأوصيكم بواحدة، أي: بخصلة واحدة، ثم بين تلك الخصلة فقال: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ } لأجل الله، { مَثْنَى } أي: اثنين اثنين، { وَفُرَادَى } أي: واحدًا واحدًا، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } جميعا أي: تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا، { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } جنون، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق، كقوله: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط" (النساء:127)".
ويقول العلامة "عبد الحميد بن باديس" في تفسير هذه الآية القرآنية: "هذه الآية جديرة بأن تُدعى آية النهوض الإنساني...{ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} القيام هنا هو النهوض من جميع وجوهه...{ لِلَّهِ} فإن النهضة إذا كانت لغير الله لا تخلو من ضرر يعود على نوع الإنسان من وجهات شتى، وإن نفعت قومًا من بعض الوجوه. ولما كانت نهضة العرب لله شهد لهم علماء الغرب بأنهم لم يعرف التاريخ فاتحًا أرحم منهم"(1)
ولمزيد بيان على كلام العلامة ابن باديس بخصوص النهضة الغربية أقول: من المقرر في العلوم الاجتماعية الحديثة التي نشأت مع نهضة الغرب الحديث أن التنمية أو النهضة لا تتحقق في مجتمع ما إلا إذا حصد أغلبية المجتمع من ثمارها وخيراتها لا سيما الطوائف التي عانت كثيرًا من الحرمان،، ويمكن تسمية هذا الشرط بشرط الامتداد في المكان، وهناك شرط ثان هو الامتداد في الزمان بمعنى الحفظ على موارد العالم ليتسنى للأجيال القادمة في المستقبل أن تلبي حاجاتها منها، فلو نظرنا إلى النهضة الغربية بمقتضى الشرط الأول لوجدنا أنها استفادت وأثرت ولا تزال تؤثر في العالم كله الذي يسمى (المجتمع العالمي) وعصر العولمة، بل لو نظرنا إلى ما قبل ذلك العصر، إلى فترة الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث (ومن بينها الدول الإسلامية) سنجدها فترة استغلال لموارد هذا العالم الضعيف التي على أساساها أقامت نهضتها الحديثة ويسمي العالم الاجتماعي "شولز Schulze" تلك الفترة "بالتاريخ الاستغلالي Interdruckte Geschichte بمعنى خضوع مجتمعات العالم الثالث تحت سيطرة مجتمعات أخرى بهدف النهب الاستعمار والاستغلال المفرط   Superexploiation لقوى العمل وقوى الانتاج، والذي يمثل العامل الحاسم في التخلف الذي تعاني منه مجتمعات العالم الثالث"(2)
ولم يغادر هذا الاحتلال الغاشم تلك البلاد المحتلة حتى ضمن ديمومة الاستغلال كما يقول "C Maural": "إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار... لقد انتقل الرجل الأبيض إلى الكواليس، لكنه لا يزال يُخرِج العرض المسرحي". (3)
إذن فالامتداد في المكان غير متوفر إذ الهوة سحيقة والعلاقة استغلالية بين ما يُسمى في العلم الاجتماعي "دول الشمال ودول الجنوب" أو دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث المتخلف.
ولو نظرنا إلى هذه النهضة بمقتضى الشرط الثاني سنجدها أيضا فاشلة باتفاق الدراسات الكثيرة التي رصدت الأزمة البيئية المعاصرة.
فاتضح بهذا البيان المختصر أن تسمية النهضة الغربية الحديثة بهذا الإسم هي تسمية غير حقيقية ولا تناسب الواقع الحي، هذه نهضة تقوم بشكل أساسي على القوة لا العدل والرحمة والإحسان، فأصول العلوم الاجتماعية الحديثة وتطوراتها نشأت بوحي وبرد فعل على أزمات الغرب وما حدث بينهم من تقاتل وانتهاك للمقدسات كأحداث الثورة الفرنسية والحربين العالميتين الأولى والثانية وما بنيهما من أحداث وصراعات كثيرة، بينما النهضة الإسلامية التي خلت وتلك المرتقبة بإذن الله تقوم بشكل أساسي على العدل والرحمة والإحسان ، أما القوة فتحصيلها من باب الضرورة لحفظ الأساس على أهله، لأن الإسلام يسوي بين البشر كلهم مؤمنهم وكافرهم في الكرامة الإنسانية التي تصون للجميع حقوقًا وواجبات لا يحل انتهاك أي منها، والأدلة على ذلك متواترة حتى أنه ورد في القرآن الكريم أن ذلك الوصف هو وصف الأنبياء الذين أوتوا الملك، وأن ذلك الوصف اشتهر عنهم حتى عرفته أمة النمل! كما قال الله تعالى {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} (النمل: 17-19)  يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس إن مبعث تعجب سليمان عليه الصلاة والسلام هو "شهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان عليه الصلاة والسلام لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنوده وظهوره منهم واشتهارهم به" (4)
والحمد لله رب العالمين.
(1)          آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، الجزائر، وزارة الثقافة، 2007م، المجلد الرابع، ص 48.
(2)          وثّق هذا الكلام من ثلاثة مصادر أوروبية أكاديمية، الدكتور "أحمد مجدي حجازي" في الهامش من بحث له بعنوان"مستقبل الإعلام الالكتروني في ظل العولمة" الفصل السادس من كتاب"الإعلام وقضايا المجتمع" جامعة القاهرة، كلية الآداب، مركز التعليم المفتوح، 2015، ص 124.
(3)          نقلا عن الدكتور "نصر عارف"، من بحث له بعنوان: التنمية المستقلة من منظور المشروع الحضاري.
(4)          مرجع سابق، المجلد الأول، ص 343.
المصدر
 http://www.al-aqidah.com/art/s/996/%D8%A2%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D9%88%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85

تعليقات

المشاركات الشائعة