نظرات عامة في فكر الدكتور محمد عبد الله دراز (1) .

نظرات عامة في فكر الدكتور محمد عبد الله دراز (1) .
بقلم/ خالد المرسي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد :
كنت قد نويت الإشتراك في المسابقة العالمية للدراسات الإسلامية التي أطلقها الشيخ يوسف القرضاوي لعمل بحث عن الدكتور محمد دراز ولكن الوقت لم يسعفني في إنهاء البحث كاملا، فأود نشر ما فرغت من كتابته لعل أحدا يستفيد منه.
يوزن علمُ الرجل بمدى قوة فهمه وعمق فكره لا بمدى حفظه أو موسوعيته المعلوماتية – وإن كانت مهمة لكن العامل الرئيس في الميزان هو الفهم -،  ولذلك قال العلماء :" قد يأتي في آخر الأمة من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة"(1) فهم قد قيدوا كلامهم ب " الأفهم" لا "الأحفظ" ولا " الأكثر اطلاعا" لا سيما بعد أن حدث النسيان في الأمة منذ قرون كثيرة ولذلك نجد كبار العباقرة عبر التاريخ – غالبا - قد ظهرت عبقريتهم بنشره كتابا واحدا أو عددا صغيرا جدا من الكتب أظهرت عبقريته في الفهم، وذلك هو السر في قول نبينا –صلى الله عليه وسلم - :" فيما رواه عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت الله ورسوله أعلم ،قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس"(2)، فالدكتور" محمد دراز" واحد من أهم من امتازوا بهذه المزية، ألا وهي ( دقة الفهم وحسن اختيار مواضيع أطروحاته في نتاجه الفكري ومشروعه الدعوي العلمي) في عصرنا هذا.
وقد اشترط علماء السلف الصالح شروطا خاصة يجب أن تتوفر فيمن يقوم بمهمة حفظ الدين على المسلمين، تلك المهمة التي حكمها الشرعي فرض كفاية على الأمة كلها. واختلفت تعبيراتهم في الإفصاح عن هذه الشروط فمنهم " ابن القصار" من أئمة المالكية يقول: إن القائم على هذه المهمة يجب أن يكون :" جاد حفظه وحسن إدراكه وطابت سجيته ومن لا، فلا"، ويقول " الدمنهوري" من أئمة الشافعية في أوصاف أهل التقليد المذموم الذين يقفون حائلا دون حفظ صحيح الدين وحائلا يعوق القائمين على حفظه، يقول عن أوصافهم السيئة التي دفعتهم إلى دََرَك التقليد:" إما  لفساد طبعه، وخلل في عقله. أو لعدم تدبره وتفهمه لما بينه الله تعالى من الآيات الواضحة، والدلائل الراجحة، وإلا فكل من له طبع سليم، وفهم مستقيم، إذا رفع عن قلبه حجاب التقليد، وتدرع جلباب الاجتهاد والتجريد، وتعرض لنفحات ربه، أفاض بجوده عليه التأييد والتسديد كما قال تعالى{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وساق الإمام "الرافعي" وغيرُه بسنده إلى نبينا –صلى الله عليه وسلم - قوله:" إذا قرأ الرجل القرآن، واحتشى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك غريزة كان خليفة من خلفاء الأنبياء" ويقول الرافعي في شرح الحديث :" " الغريزة الطبيعة، والمقصود أن الطبيعة القويمة إذا ساعدت علم الكتاب والسنة كان صاحبها من خلفاء الأنبياء وورثتهم". (3) وفي الحديث ضعف إلا أن معناه ثابت كما رأيتم من كلام العلماء.
   وقد كان من المفترض أن يتولى حكام المسلمين مهمة اختيار أفضل العناصر البشرية التي تجتمع فيها هذه الشروط؛ عبر تدبيرهم لتدابير معينة تجتذب هذه العناصر وتبرزها لكي يُؤهلوا إلى مهمة حفظ الدين وتجديد فهم الناس له، لكن العصور المتأخرة أهمل الحكام والمثقفون والشيوخ فيها هذا الأمر، وصاروا يعظمون كل من لبس الزي الازهري بغض النظر عن عقله، فكان لا يظهر في المسلمين دعاة إلى الله وعلماء مستجمعين هذه الشروط إلا على سبيل الصدفة والمنحة الربانية دون سابق إعداد وتدبير من أولياء الأمر ( الحكام والعلماء)، وكان الدكتور محمد دراز ممن ظهروا بالصدفة وبالتدبير الإلهي وقد استجمع هذه الشروط على أعلى درجاتها وأحسنها، واستجماعُه الدرجات العليا من هذه الشروط أتاح له استبصارات ناقدة ومميزات لا يتميز بها سوى الملهَمين.
 ومن هذه المميزات أن الدكتور رأى نهايات طريقه العلمي منذ وقت مبكر بخلاف من ينشغل بمواضيع علمية في بدايات طريقه ثم يتضح له بعد فترة طويلة أولويةُ غيرها بعد أن يكون قد صرف من وقته وجهده فيها، وهذه المزية يعبر عنها ابن سينا في سرده لترجمته الشخصية بقوله" فلما بلغت ثماني عشر سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء" فقوله "العلم واحد..." يقصد به أن المبادئ والنظريات والأراء والاتجاهات التي استقرت عنده حوالي الثمانية عشر لم تتغير بعد ذلك، وإنما قصارى ما حدث فيها هو توسع وتعمق أي: نضجا، وإنك أيها القارئ ستجد الخلل في هذه الجزئية لدى كثير من المنشغلين بالعلوم ، كثيرا جدا، فستجد هذا الخلل موجود عند أهل العلوم الاجتماعية وغيرها كالإسلامية واللغوية(4) وقد تكلم الإمام " الشاطبي" عن هذا الخلل لدى طلبة العلم الشرعي في كلامه عن العلم من مقدمات كتاب "الموافقات" مما يدل على خطورته واستفحاله وأنه لا ينجو منه المتعلم إلا إذا شرع منذ بدايته وانكب على كتب العلماء الراسخين من نوعية الدكتور دراز ليتشرب منهجهم وطريقتهم في اختيار المواضيع وعرضها وهذا هو ( روح العلم ).
 وسنلاحظ في نتاج الدكتور دراز أنه تعلم العلوم الإنسانية منذ بداياته العلمية لا منذ أن ابتعثه الأزهر للدراسة في جامعة السوربون بفرنسا حين كان عمره أربعين سنة فقط، ومما يثبت ذلك مقالتُه التي كتبها في جريدة "الطان" الفرنسية دفاعا عن الإسلام وحضارة المسلمين حيث أورد فيها أدلة كثيرة تُثبت أن الفرنسين كانوا في ظلمات الجهل حين كانت حضارة الإسلام هي الأولى في العالم وأنهم تعلموا منها العلوم التي أنشأوا عليها حضارتهم القائمة وهم الآن يجحدون الفضل؛ مما يدل على اهتمام مبكر جدا من الشيخ بهذه المعارف الحديثة وكذلك في كتابه " المختار من كنوز السنة شرح أربعين حديثا في أصول الدين" عند كلامه في القضاء والقدر وكلامه في وسوسة الشيطان في أصول الدين ظهرت بوضوح سعة اطلاع الشيخ في علم النفس الحديث والفلسفة الحديثة  وقد كتب الشيخ هذا الكتاب وعمره ثماني وثلاثين سنة، وكل هذا يدل أيضا على بصيرة نافذة مبكرة أتاحت له المزج بين علوم الشريعة والعلوم المعاصرة مما يجعل بنيانه العلمي أحكم وأدق ما تحتاج له الصحوة الإسلامية المعاصرة لا سيما إذا عرفنا أن هذا المزج بين علوم الشريعة والعلوم الإنسانية المعاصرة ( لاتحاد مواضيعهما وأهدافهما) هو أكبر نقص تعانيه الدعوة الإسلامية، ولأن الشيخ دراز عرف ذلك جيدا أقدم على تعلم هذه العلوم عبر الدراسة الأكاديمية مباشرة تلقيا من مبتكريها الغرب ولم يكتف باطلاعه وقراءاته فيها؛ لإدراكه مدى أهمية ذلك للدعوة الإسلامية، وذلك يعني أيضا أن نتاج الدكتور دراز يشكل مادة خام هامة جدا لطلاب العلم الذين يريدون المزج بين علوم الشريعة والعلوم الإنسانية لكي يستفيدوا منها.
ومما يتميز به الدكتور دراز أنه كان يبث فكره على هيئة مركبات ذهنية ويقول المتخصصون في طرق التفكير عن المركبات الذهنية أن من يبث فكره بها يكون تفكيره محوريا أو بذريا، أي أنه لا يقدم المعرفة الجامدة فقط بل يقدم للقارئ المعرفة النامية التي تنمو وتتشعع في الخلايا الرمادية من الدماغ فتترك القارئ وهو يفكر ويشتبك في اشتباكات جديدة لا تفتأ تنبهه إلى توسع وتعمق فإبداع، ويقولون كذلك "إن الإنسان يفكر بجُمَل"، أي: بمركبات ذهنية كما أن الجمل اللغوية مركبة من مجموع مفرداتها، لا أن مفرداتها لا علاقة تربطها ببعض، فما أحوج الدعوة الإسلامية المعاصرة إلى مثل هذا الفكر المركب، وأسوأ مشكلة يقع فيها القراء حين يعتادون القراءة لأهل التفكير السطحي غير المركب؛هي  أن جذوة عقولهم تخمد وفكرتهم تضعف فتُنتج القراءةُ فيهم أثرا عكسيا لما كان ينبغي أن تنتجه!.
ومما لاحظت في نتاج الدكتور دراز بالإضافة إلى الفكر التركيبي لاحظت أن أسلوبه في التعليم وبث الفكر أسلوب دائري لا خطي كما هو شأن الأسلوب التعليمي المشهور؛ أي: النتيجة أو المعنى المراد يقع من المقدمات موقع المركز من الدائرة لا موقع الطرف من الخط وذلك هو الأسلوب الذي قرر "الله" -تعالى- به المعاني في كتابه الكريم كما شرح الدكتور ذلك وبينه بالتفصيل في كتاب " النبأ العظيم" ونص عليه(5) وكما بينه تطبيقيا على سورة "البقرة"، ولفرط صدق الدكتور ونباهته اتخذ أسلوبا في التعليم كأسلوب القرآن الكريم، وهذا الأسلوب هو أرقى الأساليب ولا يصل إليه إلا العباقرة الأفذاذ من البشر  إذ الأسرار الإلهية والعلوم التي ضمنها الله كونه وخلقه – فيما دلتنا عليه شواهد كثيرة - مُصاغة في الواقع بهذا الشكل الأسلوبي، وهو أعجزُ للإنسان من أن يعجزه الشكلُ الخطي، فيقف الإنسان أمام الحقائق والمعاني المصاغة بالشكل الدائري موقف المتعجب العاجز عن أن يحيط علمه بهذا الشكل التعقيدي الذي هو مظنة تلاشي العقل أثناء سيره في التفاصيل والتعقيدات والسلاسل الفكرية الطويلة بأشد مما هو مظنة لذلك أثناء سيره في تلك التفاصيل المصاغة بالشكل الخطي؛ مما يتيسر لصاحب هذا الفكر أن يصل إلى استبصارات وحقائق لا يتيسر لصاحب الفكر الخطي أن يكشف عنها ويفض بكارتها، ولم تنال سيمفونية بيتهوفن ما نالته من شهرة إلا لنسجها على الشكل الدائري (6 ) والدكتور " مصطفى محمود" في كلامه عن وحدة القرآن الكريم توصل إلى مثل هذا الشكل في تقرير المعاني القرآنية وتوصل لما يشبهه من حقائق الوجود كما في الكائن البحري " نجمة البحر" " راجع فيديو بعنوان نجمة البحر" يتحدث فيه عن هذا الشكل في القرآن الكريم الكتاب المسطور وعن مثاله في كتاب الكون وذكر فيه الكلام عن "نجمة البحر" وعن " سيمفونية بيتهوفن" .
ومما يتميز به أسلوب الدكتور دراز في بث فكره مبدأ ( الاقتصاد في الفكر) وهو مبدأ من الشروط التي بها يتم ترجيح نظرية علمية على أخرى كما يقول فلاسفة البحث والتفكير العلمي، وكذلك الجمال في النظرية أو في المفهوم أو الرأي هو مما يُعتبر في الترجيح عندهم(7) .
وحيث كان هذا وضع الدكتور في العلوم الشرعية والإنسانية أرى لزاما عليّ أن أبين وضع هذه العلوم الإنسانية المعاصرة كما هو وأبين علاقتها بعلوم الإسلام والمشكلات التي ولّدتها هذه العلاقة لأنه بهذا البيان ستتضح القيمة العليا للدكتور دراز أكثر وسيتضح مدى حاجة الصحوة المعاصرة إلى نتاجه الفريد: نشأت العلوم الإنسانية كعلوم اللسانيات والاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس في أوروبا في حدود القرن الثامن عشر وهو القرن الذي شهد تفتيت الإيمان المسيحي وولادة علوم الطبيعة مع العلوم الإنسانية، نشأت العلوم الإنسانية لمّا انشغل مفكروا هذا القرن وفلاسفته بمشاكل الإنسان الواقع تحت سيطرة رجال الدين ورجال الحكم السياسي فتوسعوا في التفكير في مشاكل الإنسان من حيث علاقته بهذين النظامين المتسلطين ( الديني والسياسي) وفي طرق حلها وتقديم البدائل؛ حتى تمخض جهدهم هذا عن الثورة الفرنسية التي قلبت الأنظمة الاجتماعية والدينية السائدة في أوروبا وتأثر بها كل دول العالم، ولما تفتت الإيمان المسيحي في ذلك العصر تم التشكيك في النظريات الدينية التي تقدم إجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى كعلاقة الإنسان بالعالم ومنشأه ومنتهاه ونحو ذلك، ومع كثرة الفلاسفة والمفكرين النشطين في هذا العصر ومع تقدم العلوم الطبيعية وكذلك مع اكتشافهم لتدهور الأوضاع الاجتماعية والإنسانية  التي قامت العلوم الاجتماعية من أجل إصلاحها ونجحوا في ذلك في بداية الحركة ثم ظهرت مشاكل خطيرة لم يستطيعوا التحكم فيها فاكتشفوا فساد نظمهم الاجتماعية التي لم تفلح علومهم في إصلاحها، كل ذلك اضطرهم إلى النظر – في فترة لاحقة - بعين النقد لكل الفلسفة القديمة منذ عصر اليونان وأفلاطون وأرسطو ونحوهم، وكذلك مذاهب اللاهوت الديني فكانت كلها قائمة إما على الأساطير والخرافات المروية في كتب الدين المحرفة او على التأملات النفسية الذهنية القائمة على التخمينات والظنون غير القابلة للتحقيق العلمي كما عند الفلسفة اليونانية ومن تابعهم على مر التاريخ، وحلت محل هذه الفلسفة القديمة (فلسفة التنوير) فلسفةٌ حديثة قائمة على اكتشافات العلوم الطبيعية ونظرياتها الحديثة كنظرية النسبية ونظرية التطور (فلسفة العلم) تلك العلوم القائمة على قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والرياضيات، وهذا أدى إلى نشوء رغبة ملحة لأن تعمم مناهج العلوم الطبيعية القائمة على قوانين الفيزياء على العلوم الاجتماعية ليكون هناك علم موحد وليضمنوا نجاحها الظاهر السريع كنجاح العلوم الطبيعية، و"هناك محاولات دائبة لتعميم هذه المناهج على العلوم الإنسانية لكنها إلى الآن تلقى معارضة شديدة للصعوبات التي يلاقيها العلماء في تطبيق هذه المناهج في دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وأيضا كرد فعل للنتائج التي ترتبت على المغالاة في محاولة تطبيق هذه المناهج وإغفال طبيعة الظواهر(8) وإلى الآن هم مختلفون في طبيعة الإنسان وهل يُفهم سلوكه كما يُفهم سلوك الحيوان وطبائع الأشياء أم هو مختلف عنهما وإن كان مختلفا فما حدود الاختلاف ومعالمه؟ وإذا تطرق الخلل والشك في مناهج البحث في علم ما افتقد هذا العلم أهميته وموثوقيته، ومعلوم أن الإنسان خلقه الله مختلفا عن الحيوان وعن الأشياء فهو وإن اشترك معها في قوانين تحكمهم جميعا كقانون الجاذبية مثلا إلا أنه يختلف عنهم في موقعه وهذه الاختلافات بينها لنا ربنا جل وعلا لأنه أعلم بخلقه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }"الملك:14" فهذا الإنسان مثلا إذا بلغ وعقل صار مكلفا بتشريعات، وهو حر الإرادة وهو سيُسئل عن أفعاله وأقواله بعد البعث وهكذا إلى آخر ما وضع الله من تشريعات تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبمجتمعه وبما حوله من الكائنات والأشياء معا، والغرب لا يؤمن بهذا الدين ومن ثمّ لم يتيسر له الاجتهاد في نصوصه واكتشاف مفاهيمه وأراءه وقوانينه التي تصلح أحوال الفرد والمجتمع، ولذلك نجد كل النظم الاجتماعية والسياسية السائدة في العالم الآن فاشلة أوقعت العالم في مشاكل لا يُستطاع الخروج منها كمشاكل في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا والصناعة المتعملقة حتى أن بعض العلماء يتوقع أن مصير الإنسان هو الدمار بفعل اكتشافاته الصناعية التي لن يستطيع السيطرة عليها من ضخم ما تعملقت، وما مشاكل البيئة الجوية والبحرية والأرضية التي فجرتها الحضارة المعاصرة منا ببعيد، تلك المشاكل التي تهدد حياة العوالم الحاضرة وحياة الأجيال القادمة!، وما مشاكل النظم الاقتصادية المعاصرة في كل دول العالم منا ببعيد أيضا. كل هذه المشاكل المزمنة هي نتاج الفلسفة الحديثة التي هي أساس وقوام الحضارة الغربية المعاصرة وكتب في ذلك  علماء غربيين وعرب كتابات رصينة  ، ومن هنا كان واجبا على الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس أن تكتشف هي هذه المناهج والقوانين والمفاهيم التي ضمنّها الله وحيه ويسر لها علماء الأمة ليخدموها تفسيرا وإيضاح في شكل مواد علمية مستقرة واضحة قائمة بذاتها لننقذ بها من أراد الله هدايته وانتشاله من هذا العالم المعاصر الغارق حتى الثمالة في فلسفات وأفكار تناقض الأديان وبدائه العقول حتى شقي الإنسان المعاصر شقاء ربما لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية المدون، وكان نتاج الدكتور دراز كله يصب في هذه الوجهة كما نص على ذلك في مقدمة كتابه( المختارمن كنوز السنة شرح أربعين حديثا في أصول الدين) الذي كتبه في شبابه إذ قال:" واعلم أنك لن تجد ههنا من الأحاديث ما فيه تفصيل لكيفية الوضوء والصلاة وأحكام الطلاق والظهار والمواريث والحدود ونحوها من الفروع التي أوسعها الفقهاء بحثًا واختلافًا، فإن طالب تلك الفروع إن كان من الجمهور فكتب الفقه أدنى إلى تناوله، وإن كان من الخواص، أعني من طلاب الاجتهاد أو الترجيح في الشريعة، فإنه يجد ضالته عند " ابن تيمية الأكبر" في " المنتقى" و " ابن حجر" في " بلوغ المرام" وأمثالهما من الكتب التي عُنيت بجمع أحاديث الأحكام خاصة وعُنيت شروحها ببيان وجوه الاستنباط منها، ووصف معترك الخلاف فيها بين المجتهدين.
ولكنك ستجد إن شاء الله في هذا " المختار" ضربًا من الحديث كان متفرقًا في كتب السنة تفرُّق الذهب في مناجمه ولا أعلم أحدا أفرده بالتأليف قبل اليوم على شدة حاجة الناس إليه وقلِّة اختلاف الفقهاء فيه. هذا الضَّرب من الحديث منه تُستَمد أصولُ العقائد الإسلامية، وأصول الأحكام العملية والآداب الشخصية، والاجتماعية، والسيرة الصحيحة النبوية ومنه تتجلَّى عظمة الإسلام في متانة عقائده، وجماله في سهولة تعاليمه وسمو مقاصده، وبه تجد الدعوة إلى الدين مساغًا في نفوس جاهليه، وتزداد محبته تمكنًا في قلوب أهليه وفيه ما يحتاجه العقل من تثقيف، والنفس من تهذيب"
 فعلى الدعاة والعلماء المعاصرين أن يواصلوا المسيرة ويستفيدوا من نتاج الدكتور وأمثاله ( منهجا وموضوعا وطريقة) وقد شعر العلماء المعاصرون بهذه الضرورة الملحة منذ عهد الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا وممن آتى بعدهم وعبّر كل منهم عن هذه الضرورة بتعبيرات مختلفة كثيرة في عديد من كتبهم و تمثلوا هذا المنهج كما تمثله الدكتور دراز وكان نتاجهم يصب في هذه المواضيع، كل منهم بحسب اجتهاده وعلمه وقدرته فكانت وجهتهم واحدة ومنهجهم وتصورهم لتحديات الدعوة الإسلامية المعاصرة ومقتضياتها واحد.
ومن الملاحظ في  نتاج الدكتور دراز أن ليس فيه ما هو خاص بفئة معينة متخصصة في علوم الدين، بل نتاجه لهؤلاء ولغيرهم من عموم المسلمين – سيما المثقفين - بخلاف كثير من الأكاديميين الذين يكتبون في تخصصات الدين كتابات تقتصر فائدتها على نطاق التعليم الجامعي لدى الطلاب المتخصصين، فمنهج الدكتور دراز في التأليف هو الأكمل والأصعب إلا على من يسره الله عليه، لأنه يستلزم اتقانا لعلوم العصر، ثم إبداعا في الربط  بين مشكلات العصر و الدين؛ ليخرج نتاجا يحل هذه المشكلات ومن ثم يشعر كل المسلمين ( متخصصين وغيرهم) بأن هذا النتاج فيه أكبر فائدة، وإليه تمس الحاجة، ومن عبارات الدكتور نفسه التي تدل على ذلك ما قاله في مقدمة كتاب" المختار من كنوز السنة شرح أربعين حديثا في أصول الدين" رغم أنه كتاب مكتوب لطلاب كلية أصول الدين تخصص الحديث وقد مر بنا النقل بذلك، وكذلك ما قاله في دروس علم الأخلاق التي كان يدرسها لطلاب التخص بالجامعة يقول " المجتمع طبقتان: طبقة العامة والجماهير، ذوي الحياة الكادحة، الذين ليس لهم من الفراغ ما يتلفتون فيه نحو هذا النور، وطبقة الخاصة المثقفين، الذين لا يكتفون بمعرفة الطرق العملية، حتى يضموا إليها براهينها النظرية، ومبادئها الكلية، ولكل طائفة من هؤلاء المثقفين مشرب في الاستدلال، وغرض يسعى إليه في الحياة. فهؤلاء يعنيهم أشد العناية أن يستعرضوا هذه النظريات، ليختار كلٌ منها أقربها لاقتناعه، أو يتزودوا من جملتها ويتسلحوا بمختلف أسلحتها، للانتصار على مذاهب الهدم ونزعات التشكيك في حقيقة القانون الأخلاقي"(9) ويقول" لقد يكون في وسع الإنسان أن يستغني طول حياته عن بعض مسائل العلم والمعرفة، فلا تخطر له ببال، بل قد يستطيع أن يستغني عنها جميعها فترة طويلة أو قصيرة من عمره، ولكن أحدا لن يستطيع أن يخلي همه من المسألة الأخلاقية طرفة عين – إلى أن يقول – من هنا مست حاجة كل عاقل إلى أن يكون عنده قانون حاضر يلقنه الجواب الصحيح عند كل استفتاء، ويعصم إرادته عن الخطأ في التوجيه والاختيار"(10) وعلى هذا النحو فقس فإنك لن تجد للدكتور كتابات فيما يُسمى – مثلا - بعلم" علوم القرآن" أو " أصول الفقه" إلا وستجد فيه ما تمس حاجة  كل مسلم متعلم  - متخصصا كان أو غير متخصص – لمعرفته ،رغم أن العلمين هذين " علوم القرآن" و" أصول الفقه" ما إن يسمع بهما المسلم حتى يتبادر إلى ذهنه أن مادتهما لا تهم إلا المتخصصين فقط، وقد تشكلت في وعيه هذه الصورة من منهج المؤلفين في هذين العلمين حيث تكون مادتها دوما بعيدة عن مشاكل الفكر المعاصر وعن تقويم فكر المسلم.
 وذلك أيضا لأن نتاج الدكتور دراز كله يصب في إقامة الحجج وحل المشكلات في الدين المرتبطة بمشكلات المعرفة المعاصرة سواء كتب في علوم القرآن أو أصول الفقه أو تفسير القرآن أو علم الحديث أو الكتابات والأحاديث العامة أو غير ذلك. ومشكلات المعرفة في هذا العصر الحديث تتعلق بالنص الديني الموحى من الله؛ أي: مصادر التشريع ( القرآن الكريم والسنة النبوية وما يرجع إليهما)، فالتيار الفكري المنحرف الجارف في هذا العصر الحديث في الغرب يسلط الضوء على مشكلات النص الإلهي –كتبهم التي ينسبها رجال الدين إلى الله - من حيث نسبته إلى الله ومن حيث سلامة ومعقولية معناه في نفسه، وكان نقد النص الديني في الغرب باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية (11) – أي السند الذي يثبت نسبة النص لله أو لرسله –.  فكان نتاج الدكتور محمد دراز كله يصب في إقامة الحجج وحل المشكلات الدينية المتعلقة بفهم النص الديني والمتعلقة باستخراج المفاهيم والنظريات والأسس المستقيمة منه المتناسقة غير المتناقضة مما يعطي للناظر فيها الثقة واليقين بأن الوحي من عند الله إذ لو كان من عند غيره لوجدنا فيه اختلافا كثيرا كما يقول الله - تعالى - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}"النساء:82"، وهذه الدلالة العقلية لهي دلالة أخرى على صحة نسبة الوحي إلى "الله" غير دلالة السند التاريخي، فهي دلالة جامعة للنوعين اللذين تسلل منهما فلاسفة الغرب لإثبات أن دينهم محرف (معنى ومعقولية) وغير ثابت عن الله أو رسله (سندا وتاريخيا)، وللأسف فإن كثيرا من المنشغلين بالفلسفة في بلادنا العربية من المسلمين يريدون إعمال منهج الشك والطعن في دين الإسلام كما أعمله فلاسفة الغرب كاسبينوزا وريتشارد سيمون وجان أوسترك، والدكتور حسن حنفي هو أكبر من نشر العلمانية في العالم العربي في هذا العصر قد كان هدفه من ترجمة كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة )"لاسبينوزا" الذي حمل لواء النقد الجذري  لكتبهم المقدسة كما يقول "حسن حنفي":" إن اختيار نصوص بعينها للترجمة في حد ذاته تأليف غير مباشر، ويكون المترجم في هذه الحالة مؤلفا بطريق غير مباشر. قد يكون الدافع لاتباع هذا المنهج – التأليف من خلال الترجمة – هو حساسية الموضوع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعديا صارخا على حقوقها أو جرأة على عقلية مجتمع ما لم يبلغ بعد من التطور والتنوير ما يستطيع به تقبل الموضوع من الجديد بسهولة ويسر، أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال الآخرين حتى تتحول القضية من الذاتية إلى الموضوعية " ولذلك طيلة المقدمة ظل يضع أمثلة من نصوص الوحي المطهر ( القرآن الكريم والسنة النبوية) ومن نصوص علماء أصول الفقه كالشاطبي وابن تيمية والآمدي يقابل به كلام اسبينوزا الذي ينقض به نصوص كتبهم المحرفة فيكون قد نقض دين الإسلام – في زعمه – كما نقض اسبينوزا كتبهم المحرفة! ، فما أحوجنا إذن؛ في هذا الزمن إلى النظر في نتاج الدكتور دراز ومحاولة فهم طريقته ومنهجه لنسير في نفس طريقه ولنكون شوكة في حلق أعداء الإسلام.
وقد لاحظت أيضا أن كثيرا من كتابات الدكتور محمد دراز كانت أصلها مقالات وأبحاث قصيرة أو متوسطة أو مطولة ثم يجمعها في كتاب إذا كان موضوعها الكلي واحد مرتبط كما هو حال كتابه " الدين" و" النبأ العظيم" و" الميزان بين السنة والبدعة" و" نظرات في الإسلام" وحتى دروسه الصوتية المترابطة التي فُرغت وطُبعت بعد موته ككتاب " الصيام تربية وجهاد" وكتاب " مسئوليات أدبية بعيدة المدى" و" ثيابك فطهر" ، أو البحوث والمقالات المفردة كبحث " الربا في نظر القانون الإسلامي"وبحث" مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام" وبحث " النقد الفني لمشروع ترتيب القرآن الكريم حسب نزوله" وبحث " كلمات في مبادئ علم الأخلاق " وبحث " المسئولية في الإسلام" كل أولئك وغيره ستجده مقالات وأبحاث قصيرة أو متوسطة أو مطولة لكنها لا تخلو من تجديد وإبداع علمي رائق وفي عصرنا الحديث بالذات أصبح " "المقال ( لا الكتاب) هو الوحدة الحسابية التي تُستخدم في قياس الانتاجية في حقل البحث العلمي وبشكل غير مباشر أيضا في قياس سمعة الباحث  " كما يقول "جيرار ليكرك" في كتابه " سوسولوجيا المثقفين" وهو يميز المقال عن الكتاب في هذا الزمان خاصة لا تمييزا مطلقا ؛ ربما لأن زماننا تسارعت فيه وتيرة المعرفة بشكل غير مسبوق فكان المقال أو البحث – كل ما دون الكتاب – هو الملائم والمتمشي مع طبيعة العصر العلمية.

(1)                      ذكره عنهم الحافظ "ابن حجر العسقلاني" في شرحه على كتاب العلم من صحيح الإمام البخاري.
(2)                      أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه. وأخرجه الإمام " الشوكاني" في فتح القدير: 5/255 وخلاصة حكمه عليه: (له) طرق.
(3)                      :نقلت هذه الاقتباسات بواسطة الإمام " السيوطي" حيث نقلها في كتابه " الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".
(4)                      : بخصوص علم الإجتماع يقول الدكتور "عبد الباسط عبد المعطي":" الكثير من الكتاب والباحثين يكتبون في موضوعات وقضايا أخرى كثيرة، أضاعت وقتهم، وأخرجتهم عن موضوع العلم وقضاياه، ومن ثم كتبوا في المجتمعات الحيوانية وما شابه ذلك من موضوعات" انظر كتاب: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع ص: 15 كتاب رقم 44 من سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت -، وبخصوص علوم الإسلام فيتجد في التاريخ الإسلامي جماعات علمية ظنت الفقه الإسلامي غير علم، وظنت علم الكلام علما اعتقاديا فبذلت عمرها في العلم الثاني وتركت الأول رغم أن الصحيح هو العكس كما تكلم الإمام " ابن تيمية" عن ذلك في أول كتاب الاستقامة، وستجد في علم اللغة العربية وفي علم الفقه كذلك من انشغل بفروع كثيرة ليست من مجال العلمين  مما جعل بعض الأئمة يطلقون القول ببدعية العلمين في زمانها حيث كانا في تصور أهل هذا الزمان عبارة عن هذه الفروع المولدة التي ليست منهما في الحقيقة . ذلك يعني أن العقول تطيش موازينها أثناء الخوض في العلوم الصعبة المعقدة ولا ملجأ لمن يريد النجاة من هذه الأخطاء بعد الله إلا بالأئمة الكبار، وأمثلة هذا الخلط في زماننا كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا.
(5)                      انظر الحاشية رقم(2) من كتاب النبأ العظيم ص 278 دار القلم – الكويت -.
(6)                      هذا التشبية بالموسيقى يجوز كمثل يُضرب للاشتراك في بعض المشتبهات لا للاشتراك من كل وجه، ووجه الاشتراك هنا هو العبقرية في اكتشاف الحق الموجود ( معنى أو مادة) كما هو كائن، بغض النظر عن حكم ذلك الشيء في الشرع، ودلالة جواز مثل هذا التمثيل هو حديث بدء الوحي الذي فيه أن نبينا – صلى الله عليه وسلم -  قال حين سُئل يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال:" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ...." يقول الحافظ" ابن حجر" في فقه هذا الحديث:" فإن قيل المحمود لا يُشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبية إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به حدوث الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير منه ... الجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود بيان الأجناس" ج1 ص 25 " دار الحديث بالقاهرة".
(7)                      انظر كتاب " الفلسفة أنواعها ومشكلاتها" د " هنتر ميد" الترجمة العربية ص 164.
(8)                       ( أزمة العلوم الانسانية ) د "أحمد أبو زيد ،مجلة عالم الفكر ج:1 ص 229.
(9)                      و(10). كتاب" دراسات إسلامية في العلاقات الدولية والاجتماعية" ص:، 195 ، وص :189دار القلم – الكويت -.

(11)انظر مقدمة حسن حنفي لرسالة في اللاهوت والسياسة "لاسبينوزا" ص:20.

تعليقات

المشاركات الشائعة